الشيخ عبد الله سراج الدين
دور العلماء في الأمة:العلماء هم مصابيحُ الأمة وأنوارها وهداتُها في كل الأزمنة والأمكنة، يُنيرون دروبَ حياتها، فيفتحون القلوب المغلقة، ويُجْلون الغشاوة عن العيون المتعَبة، وينقلونها من دياجير الجهل إلى أنوار العلم، ويُخرجون الناس من الظلمات إلى النور.
وأخص بالذكر منهم علماءَ الشريعة، وفقهاءَ الدين.. فبالشريعة يكون الإنسان إنساناً شريفاً، والمواطنُ مواطناً حقاً.. وفي ضوء الشريعة يعرف الحقّ فيتّبعه، ويعرف الباطل فيجتنبه.. يعرف ما يهوي به إلى الجحيم، وما يرقى به إلى أعالي الفردوس والنعيم.
وعلماء الشريعة وحدَهم الذين يأخذون بأيدي الناس إلى طريق الهدى والصواب والحق والنور.. لأنهم ورثة الأنبياء، وحمَلة الرسالة والأمانة.. وهم دائماً في عيون الناس المثل الأعلى الذي به يقتدون.
عالم من بلدي:أريد أن أصل بهذه الكلمات إلى عالمٍ من بلدي.. يحمل تلك المزايا، ويتصف بتلك الصفات، اسمه عبد الله بنُ محمدِ نجيب سراج الدين الحسيني.
لو رأيته تذكرت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقاراً وجمالاً وجلالاً وسكينة وتواضعاً وبشاشة ورقة.. وأحلى ما يتصوره الإنسان في كمال وجمال في عبد من عباد الله.
فالرجل متمثل برسول الله صلى الله عليه وسلم تمثلاً إن لم نقل: كاملاً فهو قريب من الكمال.. من فَرْقِ شَعرِه إلى أَخَمصِ قدميه.. في مظهره.. وفي حديثه.. وفي حركاته.. وسكناته.. وفي تبسمه.. وفي أخلاقه.. وفي كل ما يتصل بحياته الإنسانية من صغيرة أو كبيرة.
عالم عامل:الرائع في هذا النور المحمدي الذي سكن في مدينة حلب الشهباء من أرض سورية أنه ليس عالماً فقط، وإنما هو عالمٌ عامل..
وحتى نلم بسيرته تفصيلاً نذكر النقاط التالية:
ولادته ونشأته:
ولد الشيخ عبد الله سراج الدين الحسيني بمدينة حلب سنة 1342 للهجرة النبوية والموافقة لسنة 1923 للميلاد من أب كان نجمَ حلبَ في أيامه هو الشيخ محمد نجيب سراج الدين الحسيني الحنفي، فأدخل ابنه عبدَ الله جامع سليمانَ القريب من حي قاضي عسكر بحلب.. فتعلم تلاوةً القرآن الكريم والكتابة، ثم انتسب إلى مدرسة دار الفلاح ـ السلطانية.. فتدرج في صفوفها، وجوّد القرآن الكريم على القارئ الشيخ عثمان قنديل الطنطاوي المصري، وأخذ شيئاً من فقه العبادات والنحو، وأشعارِ العرب، وخُطبهم التي كان مفروضاً على الطلبة يومذاك أن يحفظوها، كما أخذ علوم الرياضيات عن الشيخ محمد خير إسبر. ثم انتسب إلى مكتب الشيخ عبد الوهاب المصري الحلبي.. فبدأ بحفظ القرآن الكريم وتجويدهِ عليه، واستمر سنتينِ كاملتْينِ حتى حفظ كتاب الله كله عن ظهر قلب.
ثم انتقل إلى المدرسة الخسروية متدرجاً في صفوفها.
وحبّب إليه الحديث النبوي، وأولع بقراءته، فحفظ قسماً كبيراً من صحيح البخاري، ثم عاج على العلوم الدينية الأخرى من فقه وأصول وتفسير وفرائضَ وتوحيد ومصطلح وسيرة، وأتبعها بعلوم العربية من نحو وصرف وعروض وبلاغة، فكان فيها المبرز والمتقن.
ثم استقر به الحال في غرفة والده الشيخ محمد نجيب في المدرسة الشعبانية مجاوراً للشيخ ياسين سريّو الذي كان يُعدّ من أجَلّ شيوخه رحمه الله تعالى.. كما لازم دروس الفقه في المدرسة الإسماعيلية عند الشيخ أحمد عساف الحجي الكردي. ودروس الشيخ محمد النبهاني
وظائفه:
عُيِّن مدرساً في جامع (أبو درجين)، ثم دعي للتدريس في معهد العلوم الشرعية في المدرسة الشعبانية، وكلّف بتدريس التفسير والحديث والفقهِ الحنفي ومصطلح الحديث.
كذلك استُدعي إلى المدرسة الخسروية، فدرّس فيها المصطلح، وألف كتاباً في هذا الموضوع، فطبعته المدرسة، ووزعته على طلابها
ناب خلال ذلك في التدريس عن والده الشيخ محمد نجيب سراج الدين في جامع الحموي، ثم أبدل بجامع أبو دَرَحَيْن درسَ المحافظة في الجامع الأموي الكبير.
وشاء الله تعالى أن ينتقل من جامع الحموي، ويركّز جهوده في المدرسة الشعبانية، وراح يستقبل طلاب العلوم الشرعية، حتى إذا تخرج أحدهم من الشعبانية تلقفته جامعة الأزهر الشريف في أرض الكنانة، وأدخلته في كلياتها.
يضاف إلى هذا كله اتصالُ عالمنا الشيخ عبد الله بعلماء العالم الإسلامي، ومحادثتهم، ونيل الإجازات الرفيعة منهم بخط أيديهم.
آمن الرجل بحكمة رائعة خلاصتها:
لا يكفي أن يكون المرء عالماً، ومبرّزاً في علوم الأولين والآخرين، ثم ينطوي على نفسه، فلا يستفيد منه أحد.. إنما شأنُ العالمِ أن يكون عاملاً بعلمه، موزّعاً معارفَه عبْرَ الجهاتِ كلها، ينشر الخير َ يمنةً ويسْرَةً، آناءَ الليل وأطرافَ النهار.. ثم يكون لـه أتباعٌ يتمثلون بشخصه وتعاليمه، ويقتدون به، ويغدو كلّ منهم فلكاً جديداً تدور حوله نجوم وكواكب وأقمار.. وهكذا.
ومع هذا كلّه، لا يكفي أن يلقيَ العالمُ دروسهَ على أتباعه ومريديه وتلامذته.. ثم ينصرفُ وينصرفون.. وينتهي كلّ شيءٍ بانتهاء حياته أو حياتهم.. إنما ينبغي أن يتركَ العالمُ بعده آثاراً مسجّلة مكتوبة، يقرأها الناس أيام حياته وبعد موته. ويطّلع عليها من هو قادر على أن يصل إلى الشيخ ويراه، ومن هو غيرُ قادر على أن يصل إليه أو يراه.
دروسه ومصنفاته:لقد آمن أن نفع التصانيف أكثرُ من نفع المشافهة، فهو يشافهُ خلال حياته عدداً محدوداً من الناس، ولكنه بتصانيفه ومؤلفاته المطبوعة يشافه عدداً لا يحصى، ما خُلقوا بعد.. ودليل هذا انتفاعُ الناس بتصانيف المتقدمين كما يستفيدون من مشايخهم المعاصرين، وأن العالمَ الحقّ ينبغي أن يعكف على التأليف إن وُفّق إلى التأليف المفيد، فإنه ليس كل من ألّف أفاد ونفع، وليس المقصودُ جمعَ شيء كيفما كان، وإنما هي أسرارٌ وأنوار يُطْلِعُ الله تعالى عليها من شاء من عباده، ويوفقه لكشفها، فيجمعُ ما تفرق، ويرتبُ ما تشتت، ويشرحُ ما يحتاج إلى شرح، ويحلّ كل غامض أو معقّد..
لقد دأب شيخنا في حياته على إلقاء الدروس في المدارس المختلفة كالشعبانية والخسروية وفي جوامعَ عدَّةٍ كالجامع الكبير وجامع الحموي وجامع بنقوسا وجامع سليمان، ومع تلك الدروس الملقاة راح يسجل دروسه بتصانيف وكتب، زاد عددها على عشرين كتاباً مطبوعاً، نذكر منها:
1ـ كتاب سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم . 2ـالتقرب إلى الله تعالى. 3ـالإيمان بعوالم الآخرة ومواقفها. 4ـ الدعاء 5ـ صعود الأقوال ورفع الأعمال إلى الكبير المتعال ذي العزة والجلال. 6ـ شهادة أن لا إله إلا الله، سيدنا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم. 7ـ الصلاة في الإسلام. 8ـ الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم. 9ـ تلاوة القرآن المجيد. 10ـ هدي القرآن الكريم إلى الحجة والبرهان .11ـ هدي القرآن الكريم إلى معرفة العوالم والتفكير في الأكوان.12ـ
حول تفسير سورة الفاتحة. 13ـ حول تفسير سورة الحجرات. 14ـ حول تفسير سورة ق. 15ـ حول تفسير سورة الكوثر. 16ـ حول تفسير سورة الإخلاص والمعوذتين. 17ـ شرح المنظومة البيقونية في مصطلح الحديث.
وقد عرض الأستاذ الدكتور بكري الشيخ أمين لكتاب" حول تفسير سورة الفاتحة" في عدة صفحات وبعد أن استعرض لمحات مما جاء في تفسيره للسورة قال:
وبعد: فإن قراءة هذه الكتاب جعلتني أؤمن بما صرح به سيدنا علي بن أبي طالب ـ كرم الله وجهه ـ وفخر الدين الرازي ـ رحمه الله ـ من أن شرح سورة الفاتحة وحدها يملأ مئات الصحف والمجلدات، فالسورة فيها الحياة بكل دقائقها، وفيها الآخرة بكل جزئياتها، ولا تتأتى معرفة ذلك إلا لمن فتح الله تعالى عليه
أعود إلى الحديث عن شيخنا الكبير عبد الله سراج الدين لأقول: إن جميع كتبه من هذا القبيل، فهو لا يتناول موضوعاً إلا أشبعه بحثاً وتفصيلاً حتى لا يترك لمستزيد حاجة إلى زيادة.
إقبال الناس على كتبه:
الطريف في هذه المؤلفات أن الناس في مدينة حلب ـ هذه المدينة المباركة ـ يقبلون على اقتنائها، ويتهادوْنها.. وتنتقل هذه الكتب شراء وإهداء إلى معظم بيوت الناس في بلاد الشام، ومن بلاد الشام تنداح إلى مختلف أصقاع العالم شرقاً وغرباً. وتسهر المطابع على إعادة نشرها وتوزيعها مرة بعد مرة، وتقول: هل من مزيد؟
صورة لا تنسى: وإن أنس لا أنس شارع بنقوسا في مدينة حلب.. ففي هذا الشارع جامع كبير يتسع لآلاف المصلين.. وكان شيخنا يلقي فيه درساً على الناس بعد عصر كل يوم جمعة..
في ذلك الوقت لا يمكن لسيارة أن تمر بهذا الشارع من كثرة الزحام أو المجالسين المنصتين على الأرصفة وأرض الشوارع، يستمعون إلى درس هذا الرجل الكبير..
والرائع في تلك السيارات أن أبوابها تخرس أو تشل، فلا تسمع لها ضجة أو بوقاً أو صوتاً.. وشرطة المدينة تقف في مختلف الجهات تحوّل مسير السيارات إلى هنا وهناك.. حفظاً على حياة هؤلاء الذين يجلسون في الشوارع.. هذا يبكي، وهذا يستغفر، وهذا يطرق برأسه، وهذا يفتح يديه إلى السماء.
وتستمر هذه الحفلة إلى مغيب الشمس، ثم ينفرج الطريق ليمر موكب الشيخ المَهيب... ويصطف الناس على جانبي الطريق.. صفين متقابلين واضعين أيديهم على صدورهم.. مثبتين أعينهم على شيخهم الحبيب، داعين الله أن يحفظه ويمد في عمره.. والسعيد من اقترب منه.
أو لمس يده، أو استنشق من عبير أنفاسه وعبقَها.
الدمعة الحرى:
وتمرُّ الأيام، وتتوالى الأمراض على الشيخ، ثم يعجز عن الخروج من داره، ويعتزل الناس إلا من أسعده الحظ بلقائه لحظات خاطفات.. ويتقاطر الناس إلى بيته يسألون عن صحته، ويودون أن لو استطاعوا فداءه بأرواحهم.. ويحملون ما يحمل ويعاني ليبقى سليماً معافىً.. يرونه ويرون فيه صورة حبيبهم الأعظم صلوات الله تعالى عليه. ولكن هيهات هيهات.. فلا رادَّ لقضاء الله.. وليت الأماني بالتمنِّي.
وبزغت شمس العشرين من ذي الحجة عام 1422 للهجرة والموافق للرابع من شهر آذار سنة 2002 للميلاد على مدينة حلب، فإذا هي شمس كئيبة صفراء، وشاع في المدينة نبأ مزلزل، يقطع القلب هلعاً، والنفوس جزعاً، لقد مات حبيب الأمة وعالمها وسراجها وكوكبها الدري..
لقد مات الشيخ عبد الله سراج الدين.. وراح الناس يجهشون بالبكاء، ويسيلون جموعاً إلى موكب وداعه، ودموعهم مسفوحة، وعيونهم زائغة، وحسرتهم تقطع القلوب، وتسري في المدينة كلها كلمة: رحل الحب والحبيب...
رحل الإنسان التقي .... ودفن في المدرسة الشعبانية التي أحبها وأمضى فيها زهرة حياته، وبقي الناس يومها لا يشتهون طعاماً أو شراباً، ولا بيعاً أو شراء، وبقيت حلب تئن من يتمها ولا تزال